فصل: قال السمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

سورة المزمل عليه الصلاة والسلام:
{يا أيُّها الْمُزّمِّلُ (1)}
قوله: {المزمل}: أصلُه المتزمِّلُ، فأُدْغِمت التاءُ في الزاي يقال: تزمّل يتزمّلُ تزمُّلا. فإذا أُريد الإِدغامُ اجْتُلِبتْ همزةُ الوصلِ، وبهذا الأصلِ قرأ أُبيُّ بن كعب. وقرأ عكرمةُ {المُزمِّل} بتخفيفِ الزايِ وتشديدِ الميمِ، اسم فاعلٍ، على هذا فيكونُ فيه وجهان، أحدُهما: أنّ أصله المُزْتمِلُ على مُفْتعِل فأُبْدِلتِ التاءُ ميما وأُدْغِمتْ، قاله أبو البقاء، وهو ضعيفٌ. والثاني: أنّه اسمُ فاعلٍ مِنْ زمّل مشددا، وعلى هذا فيكون المفعولُ محذوفا، أي: المُزمِّل جِسْمه. وقرئ كذلك، إلاّ أنّه بفتحِ الميمِ اسم مفعولٍ منه، أي: المُلفّف. والتّزمُّلُ: التّلفُّفُ. يقال: تزمّل زيدٌ بكساءٍ، أي: التفّ به قال ذو الرّمة:
وكائِنْ تخطّتْ ناقتي مِنْ مفازةٍ ** ومِنْ نائمٍ عن ليلِها مُتزمِّلِ

وقال امرؤ القيس:
كأنّ ثبيرا في أفانينِ ودْقِه ** كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزمّلِ

وهو كقراءة بعضِهم المتقدِّمة.
وفي التفسير: أنه نُودي بذلك لالتفافِه في كِساء.
{قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا (2)}
قوله: {قُمِ الليل}: العامّةُ على كسر الميمِ لالتقاءِ السّاكنيْن. وأبو السّمّال بضمها إتباعا لحركةِ القاف. وقرئ بفتحِها طلبا للخِفّةِ. قال أبو الفتح: الغرضُ الهربُ من التقاءِ الساكنيْن، فبأيِّ حركةٍ حُرِّك الأولُ حصل الغرضُ. قلت: إلاّ أنّ الأصل الكسرُ لدليلٍ ذكره النحويون. و{الليل} ظرفٌ للقيامِ، وإن استغرقه الحدثُ الواقعُ فيه. هذا قول البصريين، وإمّا الكوفيُّون فيجعلون هذا النوع مفعولا به.
{نِصْفهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قلِيلا (3)}
قوله: {إِلاّ قلِيلا نِّصْفهُ}: للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحرِّرا له بعون اللهِ تعالى.
اعلم أنّ في هذه الآيةِ ثمانية أوجهٍ أحدُها: أنّ {نصفه} بدلٌ من {الليل} بدلُ بعضٍ من كلٍ. و{إلاّ قليلا} استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في {مِنْه} و{عليه} عائدٌ على النصفِ.
والمعنى: التخييرُ بين أمريْنِ: بين أنْ يقوم أقلّ مِنْ نصفِ الليلِ على البتِّ، وبين أنْ يخْتار أحد الأمريْن، وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ: وقد ناقشه الشيخ: بأنه يلْزمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يصير التقديرُ: قُم نِصف الليلِ إلاّ قليلا مِنْ نِصْفِ الليل، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: وهذا تركيبٌ يُنزّهُ القرآن عنه. قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية فإنّ الأمر فيها سهلٌ، بل لمعنى آخر سأذْكرهُ قريبا إنْ شاء الله.
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجه مرجوحا فإنه قال: والثاني هو بدلٌ مِنْ {قليلا} يعني النصف قال: وهو أشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال: {أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه}، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم نصف الليل إلاّ قليلا أو انقُصْ منه قليلا، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقلُ.
قلت: الجوابُ عنه: أنّ بعضهم قد عيّن هذا القليل: فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ: هو الثلثُ، فلم يكن القليلُ غير مقدّرٍ. ثم إنّ في قوله تناقضا لأنه قال: والقليلُ المستثنى غيرُ مقدّرٍ، فالنقصانُ منه لا يُعْقل. فأعاد الضمير على القليل، وفي الأولِ أعاده على النصفِ.
ولقائلٍ أن يقول: قد ينْقدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو أنّه يلْزمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنّ قوله: (قُمْ نِصْف الليلِ إلاّ قليلا) بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصف الليلِ إلاّ القليل مِن النصفِ، وقُمْ نصف الليل، أو انقُصْ من النصفِ، وجدتهما بمعنى. وفيه دقةٌ فتأمّلْه، ولم يذْكُرِ الحوفيُّ غير هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عرفْت ما فيه.
ومِمّنْ ذهب إليه أبو إسحاق فإنه قال: {نصفه} بدلٌ من {الليل} و{إلاّ قليلا} استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في {منه} و{عليه} عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصف الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلا إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلا إلى الثلثِ، أو زِد عليه قليلا إلى الثلثيْن، فكأنّه قال: قُمْ ثلثيْ الليلِ أو نصفه أو ثلثه.
قلت: والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاّ أنّ التركيب لا يُساعِدُ عليها، لِما عرفْت من الإِشكال الذي ذكرْتُه لك آنفا.
الثاني: أنْ يكون {نصفه} بدلا مِنْ {قليلا}، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: وإنْ شِئْت جعلْت {نصفه} بدلا مِنْ {قليلا}، وكان تخييرا بين ثلاثٍ: بين قيامِ النصفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما وصف النصف بالقِلّةِ بالنسبة إلى الكلِّ. قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشْبه مِنْ جعْلِه بدلا من {الليل} كما تقدّم.
إلاّ أنّ الشيخ اعترض هذا فقال: وإذا كان {نصفه} بدلا مِنْ {إلاّ قليلا} فالضميرُ في {نصفه}: إمّا أنْ يعود على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو {الليل}، لا جائِزٌ أنْ يعود على المبدلِ منه؛ لأنه يصيرُ استثناء مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاّ قليلا نصف القليل، وهذا لا يصِحُّ له معنى البتة، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدة في الاستثناءِ من {الليل}، إذ كان يكونُ أخْصر وأوضح وأبْعد عن الإِلباس: قُمِ الليل نصفه. وقد أبْطلْنا قول منْ قال: {إلاّ قليلا} استثناءٌ من البدلِ، وهو {نصفه}، وأنّ التقدير: قُم الليل نصفه إلاّ قليلا منه، أي: من النصفِ. وأيضا: ففي دعْوى أنّ {نصفه} بدلٌ مِنْ {إلاّ قليلا} والضميرُ في {نِصفه} عائدٌ على {الليل}، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويلْزمُ أيضا أنْ يصير التقديرُ: إلاّ نصفه فلا تقُمْه، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنى لا يصِحُّ وليس المراد من الآيةِ قطعا.
قلت: نقول بجواز عوْدِه على كلٍ منهما، ولا يلْزمُ محذورٌ. أمّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناء مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنّا قد بيّنّا أنّ القليل قدْرٌ معيّنٌ وهو الثلثُ، والليل، فليس بمجهولٍ. وأيضا فاستثناءُ المُبْهمِ قد ورد. قال تعالى: {مّا فعلُوهُ إِلاّ قلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66]. وقال تعالى: {فشرِبُواْ مِنْهُ إِلاّ قلِيلا مِّنْهُمْ} [البقرة: 249] وكان حقُّه أنْ يقول: لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ. وأمّا ما ذكره مِنْ أنّ أخْصر منه وأوْضح كيت وكيت: أمّا الأخْصرُ فمُسلّمٌ. وأمّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عدل عن اللفظِ الذي ذكره لأنه أبْلغ.
وبهذا الوجهِ اسْتدلّ منْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنّه جعل {قليلا} مستثنى من {الليل}، ثم فسّر ذلك القليل بالنصفِ فكأنه قيل: قُمِ الليل إلاّ نصفه.
ووجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنّه عطف {أو زِدْ عليه} على {انقُصْ منه} فيكونُ قد استثنى الزائد على النصفِ؛ لأنّ الضمير في {مِنْه}، وفي {عليه} عائدٌ على النصفِ. وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنّ الكثرة إنما جاءتْ بالعطف، وهو نظيرُ أنْ تقول: (له عندي عشرةٌ إلاّ خمسة ودرهما ودرهما) فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطف لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرج الأكثر بنفسِه.
الثالث: أنّ {نصفه} بدلٌ من {الليل} أيضا كما تقدّم في الوجه الأولِ، إلاّ أنّ الضمير في {منه} و{عليه} عائدٌ على الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: وإنْ شِئْت قلت: لمّا كان معنى {قُمِ الليل إِلاّ قلِيلا نِّصْفهُ} إذا أبْدلْت النصف من {الليل}: قُمْ أقلّ مِنْ نصفِ الليل، رجع الضميرُ في {منه} و{عليه} إلى الأقلِّ من النصفِ، فكأنه قيل: قُمْ أقلّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقص مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيد مِنْه قليلا، فيكون التخييرُ فيما وراء النصفِ بينه وبين الثُّلُثِ.
الرابع: أنْ يكون {نصفه} بدلا مِنْ {قليلا} كما تقدّم، إلاّ أنّك تجعلُ القليل الثاني رُبْع الليلِ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضا فقال: ويجوز إذا أبْدلْت {نصفه} من {قليلا} وفسّرْته به أنْ تجعل {قليلا} الثاني بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلا نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلا نصفه. ويجوزُ أنْ تجعل الزيادة لكونِها مُطْلقة تتمّة الثلثِ فيكون تخييرا بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع. انتهى.
وهذه الأوجهُ التي حكيْتُها عن أبي القاسم مِمّا يشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله. ولمّا اتسعتْ عبارتُه على الشيخ قال: وما أوسع خيال هذا الرجلِ!! فإنه يُجوِّزُ ما يقْرُبُ وما يبْعُدُ. قلت: وما ضرّ الشيخ لو قال: وما أوسع عِلْم هذا الرجلِ!!.
الخامس: أنْ يكون {إلاّ قليلا} استثناء مِنْ القيامِ، فتجعل الليل اسم جنسٍ ثم قال: {إلاّ قليلا} أي: إلاّ الليالي التي تترُكُ قيامها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه: وهذا النّظر يحْسُنُ مع القول بالنّدْبِ، قاله ابنُ عطية، احتمالا مِنْ عندِه. وفي عبارته: التي تُخِلُّ بقيامِها. فأبْدلْتُها: التي تتْرُكُ قيامها. وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ.
السادس: قال الأخفش: إنّ الأصل: قُم الليل إلاّ قليلا أو نصفه، قال: (كقولك: أعْطِه درهما درهمْين ثلاثة). أي: أو درهميْن أو ثلاثة. وهذا ضعيفٌ جدا؛ لأن فيه حذْف حرفِ العطف، وهو ممنوعٌ لم يرِدْ منه إلاّ شيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولهم: (أكلْتُ لحما سمكا تمْرا). وقول الآخر:
كيف أصْبحْت كيف أمْسيْت مِمّا ** يزْرعُ الوُدّ في فؤادِ الكريم

أي: لحما وسمكا وتمرا، وكذا كيف أصبحْت وكيف أمسيْت. وقد خرّج الناس هذا على بدلِ البداء.
السابع: قال التبريزيُّ: الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان، وقع على الثلثيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنّ الثلث الأول وقتُ العتمةِ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاّ قليلا، أي: ما دون نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثيْنِ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعا على الثلثيْن. وهو كلامٌ غريبٌ لا يظْهرُ من هذا التركيبِ.
الثامن: أنّ {نصفه} منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ، أي: قُمْ نصفه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنّه قال: {نصفه} بدلٌ من {الليل} وقيل: انتصب على إضمارِ: قُمْ نصفه. قلت: وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكره أولا؛ لأنّ البدل على نيةِ تكْرارِ العاملِ.
{إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا (5)}
قوله: {إِنّا سنُلْقِي}: هذه الجملة مستأنفةٌ. وقال الزمخشري: وهذه الآيةُ اعتراضٌ. ثم قال: وأراد بهذا الاعتراضِ أنّ ما كُلِّفهُ مِنْ قيامِ الليلِ مِنْ جملة التكاليفِ الثقيلةِ الصعبةِ التي ورد بها القرآن؛ لأنّ الليل وقتُ السُّباتِ والراحةِ والهدوءِ، فلابد لِمنْ أحياه مِنْ مُضادّةٍ لطبْعِه ومجاهدةٍ لنفْسِه. انتهى. يعني بالاعتراضِ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ؛ وذلك أنّ قوله: {إِنّ ناشِئة الليل هِي أشدُّ} مطابِقٌ لقوله: {قُمِ الليل} فكأنه شابه الاعتراض من حيث دُخولُه بين هذيْن المتناسِبيْنِ.
{إِنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا (6)}
قوله: {إِنّ ناشِئة الليل}: في الناشئةِ أوجهٌ، أحدها: أنها صفةٌ لمحذوفٍ، أي: النفس الناشئة بالليلِ التي تنْشأُ مِنْ مضْجعِها، للعبادة، أي: تنْهضُ وترتفعُ. مِنْ نشأتِ السحابةُ: إذا ارتفعتْ. ونشأ مِنْ مكانِه ونشز: إذا نهض قال:
نشأْنا إلى خُوْصٍ برى نيّها السُّرى ** وأشْرف منها مُشْرِفاتِ القماحِدِ

والثاني: أنّها مصدرٌ بمعنى قيامِ الليل، على أنها مصدرٌ مِنْ نشأ، إذا قام ونهض، فتكونُ كالعافية، قالهما الزمخشري.
الثالث: أنها بلغةِ الحبشةِ، نشأ الرجلُ: أي قام من الليل. قال الشيخ: فعلى هذا هي جمعُ ناشِئ، أي: قائِم، قلت: يعني أنها صفةٌ. لشيءٍ يُفْهِمُ الجمْعُ، أي: طائفة أو فِرْقة ناشئِة، وإلاّ ففاعلٌ لا يُجْمعُ على فاعِلة.
الرابع: أنّ {ناشئة الليل} ساعاتُه؛ لأنها تنْشأ شيئا بعد شيء. وقيّدها ابنُ عباس والحسنُ بما كان بعد العِشاء، وما كان قبلها فليس بناشئةٍ. وخصّصتْها عائشةُ رضي الله عنها بمعنى آخر: وهو أنْ يكون بعد النومِ، فلو لم يتقدّمْها نومٌ لم تكُنْ ناشئة.
قوله: {وطْأ} قرأ أبو عمروٍ وابنُ عامر بكسرِ الواو وفتح الطاءِ بعدها ألفٌ. والباقون بفتح الواو وسكون الطاء. وقرأ قتادةُ وشبلٌ عن أهل مكة {وِطْئا}. وظاهرُ كلامِ أبي البقاءِ يُؤْذِنُ أنه قرئ بفتحِ الواو مع المدِّ فإنه قال: {وِطاء} بكسرِ الواو بمعنى: مُواطأة، وبفتحها اسمٌ للمصدر، و{وطْئا} على فعْل، وهو مصدرٌ وطِئ. فالوِطاءُ مصدرُ واطأ كقِتال مصدرِ قاتل. والمعنى: أنها أشدُّ مواطأة، أي: يُواطِئُ قلبُها لسانها، إنْ أردْت النفس، أو يُواطئ فيها قلْبُ القائمِ لسانه، إنْ أردْت القيام أو العبادة أو الساعاتِ، أو أشدُّ موافقة لِما يُراد من الخُشوعِ والإِخلاصِ، والوطْءُ بالفتح أو الكسرِ على معنى: أشدُّ ثبات قدمٍ وأبْعدُ مِن الزّللِ، أو أثقلُ وأغلظُ مِنْ صلاةِ النهارِ على المصلِّي، من قوله عليه السلام: «اللهم اشْدُدْ وطْأتك على مُضر» وعلى كلِّ تقدير فانتصابُه على التمييز.
قوله: {وأقْومُ} حكى الزمخشري: أنّ أنسا قرأ {وأصْوبُ قِيلا} فقيل له: يا أبا حمزة إنما هي: وأقومُ!! (فقال:) إِنّ أقْوم وأصْوب وأهْيأ واحدٌ. وأنّ أبا سرار الغنوِيّ قرأ (فحاسُوا خلال الديارِ) بالحاءِ المهمةِ فقيل له: هي بالجيم. فقال: حاسُوا وجاسُوا واحدٌ. قلت: له غرضٌ في هاتيْن الحكايتيْن، وهو جوازُ قراءة القرآن بالمعنى، وليس في هذا دليلٌ؛ لأنه تفسيرُ معنى. وأيضا فما بيْن أيدينا قرآن متواترٌ، وهذه الحكايةُ آحادٌ. وقد تقدّم أنّ أبا الدرداءِ كان يُقرئ رجالا {إِنّ شجرة الزقوم طعامُ الأثيم} [الدخان: 44] فجعل الرجلُ يقول: اليتيم. فلمّا تبرّم به قال: طعامُ الفاجرِ يا هذا. فاستدلّ به على ذلك منْ يرى جوازه. وليس فيه دليلٌ؛ لأنّ مقصود أبي الدرداءِ بيانُ المعنى، فجاء بلفظٍ مبينٍ.
{إِنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا (7)}
قوله: {سبْحا}: العامّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سبح، وهو استعارةٌ، استعار للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحة في الماءِ، وهي البُعْدُ فيه. وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة {سبْخا} بالخاء المعجمةِ. واختلفوا في تفسيرِها، فقال الزمخشري: استعارة مِنْ سبْخِ الصُّوفِ: وهو نفْشُه ونشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل. وقيل: التّسبيخُ: التخفيفُ، حكى الأصمعيُّ: سبخ الله عنك الحُمّى، أي: خفّفها عنك. قال الشاعر:
فسبِّخْ عليك الهمّ واعلمْ بأنّه ** إذا قدّر الرحمنُ شيئا فكائِنُ

أي: خفِّف. ومنه (لا تُسبِّخي بدُعائِك)، أي: لا تُخفِّفي. وقيل: التّسْبيخ: المدُّ. يقال: سبِّخي قُطْنكِ، أي: مُدِّيه، والسّبيخة: قطعة من القطن. والجمعُ سبائخُ. قال الأخطل يصف صائِدا وكلابا:
فأرْسلوهُنّ يُذْرِيْن التراب كما ** يُذْرِيْ سبائخ قُطْنٍ ندْفُ أوتارِ

وقال أبو الفضل الرازي: وقرأ ابن يعمر وعكرمة {سبْخا} بالخاء معجمة وقالا: معناه نوْما، أي: ينامُ بالنهار ليسْتعين به على قيام الليل. وقد تحتمِلُ هذه القراءة غير هذا المعنى، لكنهما فسّراها فلا تجاوُز عنه. قلت: في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنّهما نقلا هذه القراءة، وظهر لهما تفسيرُها بما ذكرا، ولا يلْزمُ مِنْ ذلك أنّه لا يجوزُ غيرُ ما ذكرا مِنْ تفسيرِ اللفظة.
{واذْكُرِ اسْم ربِّك وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا (8)}
قوله: {تبْتِيلا}: مصدرٌ على غير الصدرِ وهو واقعٌ موقع التّبتُّل؛ لأنّ مصدر تفعّل نحو: تصرّف تصرُّفا، وتكرّمّ تكرُّما. وأمّا التفعيلُ فمصدرُ فعّل نحو: صرّف تصْرِيفا. ومثلُه قول الشاعر:
وقد تطوّيْتُ انْطِواء الحِضْبِ ** فأوقع الانفعال موْقِع التّفعُّل

قال الزمخشري: لأنّ معنى تبتّل: بتّل نفسه، فجيْء به على معناه مراعاة لحقِّ الفواصِل. والتبتُّل: الانقطاعُ. ومنه (امرأة بتولٌ)، أي: انقطعتْ عن النِّكاحِ، وبتلْتُ الحبْل: قطعْتُه. قال الليث: البتْلُ: تمييزُ الشيءِ من الشيءِ. وقالوا: (طلْقةٌ بتْلةٌ)، و(هِبةٌ بتْلةٌ) يعنون انقطاعها عن صاحبِها، فالتبتيلُ ترْكُ النِّكاحِ، والزهدُ فيه. والمرادُ به في الآيةِ الكريمة الانقطاعُ إلى عبادةِ اللهِ تعالى دون ترْكِ النكاحِ، وفي الحديث: «أنّه نهى عن التبتُّل»، أي: الانقطاع عن النِّكاح، ومنه سُمِّي الراهبُ (مُتبتِّلا) لانقطاعِه عن النكاحِ. قال امرؤ القيس:
تُضِيْءُ الظلام بالعشِيِّ كأنّها ** منارةُ مُمْسى راهِبٍ مُتبتِّلِ

{ربُّ الْمشْرِقِ والْمغْرِبِ لا إِله إِلّا هُو فاتّخِذْهُ وكِيلا (9)}
قوله: {رّبُّ المشرق}: قرأ الأخوان وأبو بكر وابن عامر بجرِّ {ربِّ المشرق} على النعت ل {ربِّك} أو البدلِ منه أو البيانِ له. وقال الزمخشري: وعن ابن عباس على القسم بإضمارِ حرفِ القسمِ كقولك: (اللّهِ لأفعلنّ)، وجوابُه {لا إله إِلاّ هُو} كما تقول: (واللّهِ لا أحد في الدار إلاّ زيدٌ) قال الشيخ: لعلّ هذا التخريج لا يصِحُّ عن ابن عباس؛ لأنّ فيه إضمار الجارِّ، ولا يُجيزه البصريون إلاّ مع لفظِ الجلالةِ المعظمةِ خاصة، ولأن الجملة المنفيّة في جوابِ القسم إذا كانتْ اسمية فإنما تُنْفى ب (ما) وحدها، ولا تُنْفى ب (لا) إلاّ الجملة المصدرةُ بمضارعٍ كثيرا، أو بماضٍ في معناه قليلا، نحو قوله:
رِدُوا فواللّهِ لا ذُذْناكُمُ أبدا ** ما دام في مائنا وِرْدٌ لوُرّادِ

والزمخشريُّ أورد ذلك على سبيلِ التجويزِ والتسليمِ، والذي ذكره النحويُّون هو نفيُها ب (ما) كقوله:
لعمْرُك ما سعْدٌ بخُلّةِ آثمٍ ** ولا نأْنأٍ يوم الحِفاظِ ولا حصِرْ

قلت: قد أطلق الشيخ جمالُ الدين بن مالك أنّ الجملة المنفيّة سواء كانتْ اسمية أم فعلية (تُتلقّى) ب (ما) أو (لا) أو (أن) بمعنى (ما)، وهذا هو الظاهر.
وباقي السبعةِ برفعِه على الابتداءِ، وخبرُه الجملة مِنْ قوله: {لا إله إِلاّ هُو} أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: وهو ربُّ. وهذا أحسنُ لارتباطِ الكلامِ بعضِه ببعضٍ. وقرأ زيدُ بن عليٍّ {ربّ} بالنصبِ على المدحِ. وقرأ العامّةُ {المشْرِقِ والمغربِ} موحّدتيْن. وعبدُ الله وابن عباس {المشارِقِ والمغارِبِ} ويجوزُ أنْ ينتصِب {ربّ} في قراءة زيد مِنْ وجهْينِ آخريْنِ، أحدُهما: أنّه بدلٌ مِنْ {اسم ربِّك} أو بيانٌ له، أو نعتٌ له، قاله أبو البقاء، وهذا يجِيءُ على أن الاسم هو المُسمّى. والثاني: أنه منصوبٌ على الاشتغالِ بفعلٍ مقدّرٍِ، أي: فاتّخِذْ ربّ المشرِقِ فاتّخِذْه، وما بينهما اعتراضٌ.
{وذرْنِي والْمُكذِّبِين أُولِي النّعْمةِ ومهِّلْهُمْ قلِيلا (11)}
قوله: {والمكذبين} يجوزُ نصبُه على المعيّةِ، وهو الظاهرُ، ويجوزُ على النّسقِ، وهو أوفقُ للصِّناعةِ.
قول: {أُوْلِي النعمة} نعتٌ للمكذِّبين. والنّعْمةُ بالفتح: التنعمُ، وبالكسرِ: الإِنعام، وبالضمِّ: المسرّةُ. يقال: نُعْمُ ونُعْمةُ عيْنٍ.
قوله: {قلِيلا} نعتٌ لمصدرٍ، أي: تمْهيلا، أو لظرفِ زمانٍ محذوفٍ، أي: زمانا قليلا.
{إِنّ لديْنا أنْكالا وجحِيما (12)}
قوله: {أنكالا}: جمعُ نِكْلٍ. وفيه قولان، أشهرُهما: أنه القيْدُ. وقيل: الغُلُّ، والأولُ أعْرفُ. وقالت الخنساء:
دعاك فقطّعْتُ أنكالهُ ** وقد كُنّ مِنْ قبلُ لا تُقْطعُ

{وطعاما ذا غُصّةٍ وعذابا ألِيما (13)}
قوله: {ذا غُصّةٍ}: الغُصّةُ: الشّجى، وهو ما ينْشبُ في الحلْقِ فلا ينْساغُ. ويُقال: غصصْت بالكسرِ، فأنت غاصٌّ وغصّانُ قال:
لو بغيرِ الماءِ حلْقي شرِقٌ ** كنتُ كالغصّانِ بالماءِ اعتصاري

{يوْم ترْجُفُ الْأرْضُ والْجِبالُ وكانتِ الْجِبالُ كثِيبا مهِيلا (14)}
قوله: {يوْم ترْجُفُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب {ذرْني}، وفيه بُعْدٌ. والثاني: أنه منصوبٌ بالاستقرار المتعلِّقِ به {لديْنا}. والثالث: أنه صفةٌ ل {عذابا} فيتعلّقُ بمحذوفٍ، أي: عذابا واقعا يوم ترْجُفُ. والرابع: أنه منصوبٌ ب {أليم}. والعامّةُ {ترْجُفُ} بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ مبنيا للفاعلِ، وزيدُ بن علي يقرؤُه مبنيا للمفعولِ مِنْ أرْجفها.